السابعة والنصف صباحاً ...
ها أنا أجلس منذ صلاة الفجر كالعادة على حاسوبي العزيز, أقوم بإنجاز بعض الأعمال وتصفح الانترنت بين الفينة والأخرى, كوب نعناعي الساخن يمدني بالطاقة و"الدماغ" الكافيتان لإكمال مشوار التركيز ... غارقا في كل ذلك, إذا بيد حانية رقيقة تربت على ذراعي ... التفت, آه, إنها "حياة" أختي الصغرى بالصف الثالث الابتدائي ...
لمن لا يعرفها ... هي ملاك رقيق, عليها ابتسامة تذيب القطب الشمالي وتحوله إلى حتة أيس كريم صغيرة, قبلة صغيرة منها تنسيك همومك ولو كنت رئيس منظمة "شايل طاجن سته" ... الغريب ان هذا ما تطالعه نهارا, أما ليلا عند قدوم ميعاد نومها, فهي تتحول إلى شيطان صغير يعيث في البيت صخبا ... أبي من النوع الذي يحب النقاش الهادئ, لذا فهو يرزعها كفاً سوبر تحيلها إلى كتلة من الصراخ التوتري المزعج على سريرها, حتى يغلبها النوم, فتنام مرتاحة, ويرسل أهالي المدينة المجاورة برقيات شكر لنا على انتهاء هذه الكارثة البكائية ...
المهم, أنها كانت في حالتها الملائكية إياها, رغم بوزها العريض لعلمها أنها ستتوجه إلى معتقل التعذيب اليومي, المدرسة ... ابتسمت لها متسائلا :
- خير يا "حياة" ... في حاجة
- أيوه ... تعالى وصلني المدرسة عشان بابا نزل بدري وموصلنيش
- مانتي شايفة يا ماما إن عندي شغل كتير ... روحي خلي "أسامة" يوصلك
- قلتله ... قالي هوه مفيش مرمطون غيري في البيت ولا إيه ؟
- ومحمد ؟
- نطيت في كرشه تلات مرات ... بس مش عايز يصحى برضه, ده كان فاكرني حتة جاتوه وهياكلني, بس ربنا أنقذني ...
- طيب يا غلباوية, أنا مش فاضي ... شوفيلك مواصلة تانية
نظرت الفتاة إلي شزراً, ولولا أني أعلم أني أخوها الأكبر لركضت خوفا من أن تناولني "لكمية" محترمة, ثم نفخت هواءا ساخنا أول الغرفة لدرجة الشواء, وانطلقت تدب على الأرض مبرطمة بكلام من عينة "يارب خدني من البيت ده وريحني ... كان لازم يبقالي أخوات ... يا رب النت يولع"
أمسكت أعصابي .. وأدركت أن الحوار لم ولن ينفع معها, حسنا , المرة القادمة سأستخدم أسلوب أبي الناجح مع هذا الجيل المتعفرت ..
عدت بنظري إلى شاشة الجهاز وبدأت في العمل و ...
- تامر
- تااااااااااامر
- تاااااااااااااااااااااااااااامررررررررررررررر
آه ... أمي العزيزة ... لا زالت تصر على إيقاظ عم مرعي الأطرش الذي يسكن بالقرب منا ... قمت بسرعة متوجها لها قبل أن تصاب أسود الكونغو بالصمم, ونتكفل نحن بفواتير علاجها ...
وصلت لها في غرفتها قبل أن تبدأ في وصلة تامرية أخرى ... سألتها :
- خير يا حاجة
- معلش يا تامر يا أخويا ... خد البنت أختك وديها المدرسة
رمقت تلك العفريتة الصغيرة ذات البوز الملتوي بنظرة غل, ورددت :
- مش هينفع يا أمي ... معايا شوية شغل
- يابني روح بسرعة .. دول خطوتين
- يا حاجة مبحبش أقطع تركيزي, سيبيني في حالي
- معلش يا تامر ... مفيش حد غيرك
- بصي يا حاجة ... أنا مش فاضي خالص, ومش هروح أوديها ...
---------------------------------
أسير في الشارع بجانب تلك المزعجة موصلا إياها إلى المدرسة ... لا أعلم كيف انتهى بي الحال هكذا, لكنه انتهى على أي حال !!!
- تامر ... انت جاي بالترنج والشبشب المقطوع ده ؟
- أيوه يا أستاذة, فيها حاجة ؟
- لأ يعني .... بس احنا رايحين المدرسة و ...
- يعني رايحين حفلة تخرج ولا سهرة سواريه ؟ دي مدرسة ابتدائي كحيتي
- تامر ... يعني إيه سواريه ؟
- ده المكان اللي بيحطوا فيه العيال اللي بترخم على أخواتها الكبار, ويفضلوا يزغزغوا في رجليهم لحد ما سنانهم تقع
- طيب طيب ... خلاص
مشينا شوية ....
- تامر ... متجيبلي عود قصب ...
- أنا ممكن أجيب واحد أكسره على دماغك ... انجري يا بت على المدرسة ...
- يووووه ... دي بقت حاجة صعبة, أنا هبقى أجيب واحد بعد المدرسة وأغيظك بيه
- غيظي ياختي ... فاكرة نفسك جايبة عود دهب؟ .. ده حتى مسوس والراجل بخلان يحشيه ...
وصلنا مدرستها المتهالكة وعبرنا بوابتها, الأطفال في كل ركن وكل زاوية, أطفال عند الباب, في الحوش, في الحمامات, فوق النخل, حتى أني أخرجت طفلا من بين قدمي كان يبحث عن "بلية" !!!
وبينما أنا في هذا الهرج, تركت أختي يدي فجأة, وهي تجري منادية : ازيك يا ميس "هيام" ؟
التفت إليها لأريها النجوم في عز الظهر ولأطلق قذائف "البونيات" التي سوف .....
- ازيك يا حياة ؟
احم ... وقفت كالتمثال, وتجمد كل ما حولي ... وأنا أطالع حياة تسلم على أستاذتها "هيام" وتضحك معها.
كانت أستاذتها تلك ترتدي إسدالا, وتملك وجها مريحاً رقيقاً جذاباً , يشع منه نور آسر و ...
- حضرتك أخوها ؟
أفقت على سؤالها مكتشفا أني أنظر إلى عينيها مباشرة, أسرعت أغض بصري محاولا الرد :
- نعم ؟ .... إيه ... آه .. أيوه أيوه ... أخوها ... هيهيهيه
- بص يا تامر ... دي أبلة "هيام"
- أيوه ... دي "حياة" بتحكي عنك كتير, بتقول : أنا مبفهمش العلوم إلا من ميس "هيام"
- احم ... تامر, العلوم بتاعة ميس "رغدة", أبلة "هيام" مسئولة المكتبة ...
- إيه؟ ... أيوه ... سوري ... أصل عندي زهايمر في الأسماء ... معلش
أخذتُ أحاول مداراة الشبشب المقطوع, و مساواة شعري الذي يشبه "لفة سلك المواعين", وهي ترد :
- ولا يهم حضرتك ... على فكرة , أختك "حياة" ممتازة جدا ... ربنا يخلهالكو
- ماهو "تامر" اللي بيذاكرلي يا ميس
- بجد, دي حاجة كويسة جدا انك تاخد بالك منها
- يوه, دي حاجة بسيطة جدا ... أنا بحب دايما أخدم النشء الصغير, دول زي أولادنا برضه
- ربنايكرمك ... طب نستأذنك عشان الطابور هيبتدي ... سلمي على أخوكي يا "حياة" عشان نمشي
جرت العفريتة الصغيرة نحوي, انحنيت أقبلها وهي تردد :
- زي أولادنا برضه؟! أقولها إنك موصلني بالعافية ؟
- تظاهرت بالابتسام وأنا أضغط على أسناني :
- خليكي جدعة, وهجيبلك قصب المرة الجاية
- وكراسة رسم وكيس دوريتوز ... اتفقنا ؟
- طيب يا مستغلة
ضحكت وانطلقت إلى معلمتها, ثم اتجهتا معا إلى أرض الطابور بينما غادرت أنا المدرسة, ولكن ليس كما دخلتها ...
---------------------------
أنهيت عملي في ذلك اليوم بين تركيز وتهييس, ثم انطلقت عائدا إلى البيت, تناولت العشاء على عجل ثم ناديت "حياة":
- إيه يا توتة ... مش عايزاني اذاكرلك ؟
توقف البيت كله فجأة, ونظر لي الكل في استغراب ... تنحنحت بحرج وأنا أردد :
- أنا بس قلت الامتحانات قربت فلازم ناخد بالنا منها ...
رفعت أمي حاجبا وخفضت الآخر مرددة :
- خير ... خير ... هيه فعلا محتاجة حد يذاكرلها اليومين دول
جاءت "حياة" ناظرة إلي من تحت لتحت قائلة :
- آآآآه ... تذاكرلي ... ولّا عايز تعرف عن أســ ...
كتمت فمها بسرعة, وربطتها, ثم أختها طيران على الصالون وأغلقت الباب من خلفي ... القيتها بعد أن عضت يدي, ثم هددتها :
- عارفة لو استهبلتي وعملتي فيها ناصحة ... هرميك من السطوح عند الكلب بتاع الواد حمادة ....
- لاااااااااااااااااا ... خلاص يا تامر ... عشان خاطري معلش ...
- أيوه كده اتعدلي, عالم متجيش إلا بالعين الكاروهات ...
تذكرت فجأة أني أنا من يحتاج إلى المعلومات, وأني في موقف الضعف, تذمرت من هذا الموقف الذي يجعلك لعبة في يد طفلة عفريتة في الصف الثالث الابتدائي لا تعرف الفرق بين الجامعة والجمعية ...
انحنيت في عطف أبوي شديد, وفي صبر أقل من صبر أيوب قلت لها:
- حيوته ... حبيب قلبي ... أنا يهمني مصلحتك ...
- أكيد .. مانا عارفة
- بقولك صحيح ... مين ميس "هيام" دي ؟
- دي مسئولة المكتبة, أصلي في الفسحة والحصص الفاضية بروح المكتبة أقرا كتب, فهي عارفاني وسعات بتقعد تتكلم معايا
- طيب بصي يا "حياة" ... أنا هطلب منك مهمة سرية ... توب سكريت يعني ...
وانحنيت على أذنها أخبرها بتفاصيل خطتي الخاصة...
-----------------------------------------
استمر الموضوع أياما, كنت آخذ "حياة" إلى مدرستها يوميا, مرتديا ملابس العمل ومصففا شعري كـ "ألفيس بريسلي" هادفا إلى رؤية "هيام", في بعض الأحيان كنت أستطيع مقابلتها, وأحيانا أسألها عن أحوال أختي في الدراسة بحكم متابعتها لها, وعند عودتي من العمل أجد نفسي أستمع إلى أناشيد من عينة "زوجتي" و"أفراح وورود" و"ياجماله" بكثرة ... بل إني فسدت لدرجة أني أقرأ بعض الشعر الجاهلي خلسة !! ... ده الموضوع بقى خطير ...
كل ذلك وأنا أكون قراري المصيري ...